** مزاعم خاطئة عن التوكيدية
لا حظت خلال تعاملي مع مرضاي أن البعض منهم ، خاصة في البدايات الأولى من التدريب على تأكيد الذات ، قد يسلكون أو يتصرفون على نحو عدواني وصاخب مع الآخرين . بعبارة أخرى ، قد يفسر البعض منا التوكيدية تفسيراً سلبياً خاطئاً . ومن ثم تصبح التوكيدية بالنسبة لهذا البعض مرادفة للغضب ، والصياح ، والتسلط ، ومواجهة الآخرين بعيوبهم ، والإلحاح في الطلبات المعقولة أو غير المعقولة . بالطبع قد يتطلب التدريب على التوكيدية في البدايات الأولى ، ممارسة بعض هذه التصرفات بوعي وبدرجات محسوبة . لكن التوكيدية في معناها الصحي لا تتضمن هذا المعنى السلبي ، ولهذا فإن المريض يجب أن يفهم أن من متطلبات تدريب القدرة على تأكيد الذات أن نتجنب :
- نوبات الحنق وثورات الغضب ، فأنت عندما تترك الغضب يملكك ، تسمح لإنفعال هدام منفرد كالقلق أو الغضب بأن يسيطر عليك ، وأن يكون أسلوبك في مواجهة مختلف أنواع الضغوط .
- ضع حدوداً للغضب ، فالغضب جنون مؤقت ، فإذا كانت بعض تصرفات زملائك أو أطفالك أو أفراد أسرتك تثير غضبك الدائم ، فمعنى ذلك أنك تسمح لهم بإكتشاف إحدى نقاط الضعف ، التي يمكن أن تستغل من قبلهم حتى لو بحسن نية لإثارتك ، ناهيك عن أن البعض من غير المقربين قد يتمنون إثارتك لإظهارك بصورة إنسان أحمق ومنفعل وطائش ، صحيح أن الصحة النفسية قد تتطلب أحياناً التعبير عن انفعالاتنا بصدق بما فى ذلك الغضب ، لكن التعبير التوكيدي يتطلب وعيك الواضح بنفسك وأنت فى قمة الانفعال ، كما يتطلب منك إدراكاً جيداً للحدود التي يجب أن تكون قادراً عندها على إيقافه ، كما يتطلب أن تكون على إلمام ببعض المهارات الإجتماعية التي سنعرض بعضها فيما بعد التي تمكنك من التعبير عن مشاعرك ، دون أن تسمح لنفسك أن تكون تحت رحمة الإنفعالات .
- من المهارة أن تتوقف عن الدخول فى المنافسات والمواجهات الحمقاء ، خاصة تلك التي تتضمن تعدياً على أدوار الآخرين ، مثال ذلك العلاقة بالرؤساء أو الأساتذة ، أو المشرفين ، لعلك تتذكر أن دورهم يتطلب إعطاء أوامر أو توجيهات ، إمنحهم السلطة التى يتطلبها أداؤهم للدور الممنوح لهم .
- تذكر أيضاً أنك تقوم بدور مماثل في مواقف أخرى وأن القدرة على تأكيد الذات في مضمونها الصحي ، هي أن تخرج أنت والأطراف الداخلة معك في مختلف العلاقات الإجتماعية بالظفر والكسب المتبادل ما أمكن .
- ومن الأخطاء أيضاً أن نسرف في المجادلة ، أو محاولة إظهار أننا على حق ، أو أن نبين للآخر أنه غير منطقي ، خاصة مع الذين لا يجدي معهم هذا الأسلوب ، أو عندما تكون مخطئاً ، مثال ذلك إذا إستوقفك رجال الأمن أو الشرطة للتفتيش ، أو إثر خطأ معين ، أو شك في خطأ فإنك بمحاولتك للجدل معهم وإظهارهم أنهم على خطأ ، أو أنهم متحيزون لأنهم لم يوقفوا هذا أو ذاك مثلك ، فإنك بهذا قد لا تعالج مشكلة كما تتطلب التوكيدية . بل تخلق مشكلة إضافية قد تكون أسوأ مما لو أنك قد سمحت للأمر بأن يسير على النحو الطبيعي ، أو مما لو أنك إعترفت بالخطأ وأظهرت أنك لم تكن تعني ما حدث من أخطاء وأنك ستراعي مستقبلاً أن تتجنب ذلك .
- كما يجب أن تكون على قدر من المهارة وتأكيد الذات بحيث ترفض أن يجرك أحد إلى مجادلة أو مناقشة سخيفة ، أو مملة ، بيّن بوضوح له أو لها أنك لا تريد الدخول فى مهاترات أو جدل ، وأنك لن ترضى بأقل من مناقشة هادئة قائمة على الإحترام المتبادل .
- كذلك كن على وعي بالنصائح التي يتبرع بإعطائها لك المحيطون بك ، بمن فيهم الأصدقاء وأفراد الأسرة المقربون ( والحكمة تقول : اللهم احمني من أصدقائي ، أما أعدائي فأنا كفيل بهم ) . فالغالبية العظمى من هذه النصائح تأتي من ظروف مختلفة ، وتوضع من وجهة نظر مختلفة ، وتعبر عن إحتياجات خاصة لدى هؤلاء الآخرين كما أنها تعكس في الغالب دوافعهم الشخصية التى مهما بلغ نبلها فإنها قد لا تعكس تماماً فهمك الخاص للموقف الذى تتفاعل معه ، ولا يتعارض مع رفضك لذلك ، أن تحاول أن تستفيد من ملاحظات الآخرين وخبراتهم في التعامل مع المواقف المماثلة . فملاحظتنا للآخرين وإستفادتنا من تجاربهم في وضعها الأسلم عادة ما يجب أن تكون على نحو قصدي أي أننا نختار بدافع شخصي أو بتوجيه من المعالج ( بهدف علاجي ) أنماطاً من الأداء والسلوك فعال وناجح ، ونحن عندما نوجه إهتمامنا للآخرين لا نوجهه لنصائحهم بقدر ما نوجهه لأساليبهم السلوكية التي أنجحتهم في حل مشكلات مماثلة أو معالجة ضغوط أو أداء سلوك فعال بما في ذلك تعبيراتهم البدنية واللفظية ومهاراتهم الحركية واللغوية ، وقدراتهم على مغالبة الإنفعالات وما يكون قد تطور لديهم من مهارات اجتماعية بديلة للتغلب على الإنفعالات .
** التعرف على مصادر الضعف والقوة في التعامل مع الآخرين
أصبح بالإمكان تقدير القدرة على تأكيد الذات ، وتحديد مصادر الضعف في هذه الخاصية . في المواقف العلاجية عادة ما نجد سهولة واضحة في تكشف نقاط الضعف في هذه الخاصية . فمن ناحية نجد أن المريض نفسه على دراية واضحة بضعفه في جانب معين ، وربما يكون دافعه الأساسي لطلب العلاج هو عجزه عن المطالبة بحقوقه . أو التعبير عن نفسه في المواقف التي تتطلب علاقة بالسلطة أو الجنس الآخر ، أو عجزه عن الحديث في موقف يتطلب الكلام عن إمكانياته ونقاط القوة لديه ، ويشعر بالأسى والأسف بعد ذلك لأنه ترك الفرصة تمر دون أن اقتناصها … إلخ .
وقد عودتني خبرة التعامل مع المريض العربي أن تكون المشكلات المرتبطة بالعجز عن توكيد الذات هي المشكلة الرئيسية ، إذا جاء المريض يشكو بطريقة تفتقر للتحديد من ضعف الشخصية . فهنا عادة مانحاول أن نبلور شكواه ، ونجعلها أكثر تحديداً من خلال طرح عدد من الأسئلة عما يعنيه بالضبط ( ضعف الشخصية مثلاً ) ، وبإعطاء أمثلة عن متى كانت آخر مرة أو آخر موقف شعر فيه بذلك ؟ وأن يشرح لي موقفاً أو مواقف أخرى إنتابه خلالها نفس الإحساس بالضعف أو العجز عن التعبير عن نفسه ؟ وماذا حدث في هذه المواقف بالضبط ؟ وكيف إستجاب ؟ وهل دائماً يحدث أو يستجيب بذلك ؟ ومن كان حاضراً في ذلك الموقف أو المواقف ؟
وفي العادة نتبين من هذه الأسئلة دون صعوبة كبيرة علامات الإفتقار إلى التوكيدية ، والمواقف النوعية التى تظهر فيها ، فضلاً عن الأخطاء التى يرتكبها المريض في مثل هذه المواقف ، ومن هنا تبدأ الخطة العلاجية
وقد نعجز أحياناً لأسباب مختلفة ، خاصة في المواقف الحادة من الإكتئاب ، أو عندما يكون الإكتئاب مصحوباً بدرجة عالية من القلق الإجتماعي تعيق الفرد عن التفاعل الجيد بالموقف العلاجي ، قد نعجز عن التشخيص السريع لجوانب المشكلة . هنا نلجأ إلى إستخدام مقاييس الشخصية المعدة لهذا الغرض . وهنا أيضاً نجد لحسن الحظ أن هناك عدداً من إختبارات الشخصية التى تساعد من ناحية ، على تقدير مستوى الشخص من حيث القدرة على تأكيد الذات ، كما تساعد من ناحية أخرى على تحديد المجالات النوعية المرتبطة بالعجز عن تأكيد الذات . ولهذه المقاييس ميزة إضافية أخرى ، لأنها تساعد على العلاج الذاتي في الظروف التي لا يتاح فيها العثور على معالج سلوكي كفء يرسم له خططاً علاجية موجهة لهذا الغرض
===================================
الدكتور عبد الستار إبراهيم
أستاذ العلوم النفسية واستشاري الصحة النفسية والعلاج النفسي / الظهران