من الجوانب الشخصية التي تبين إرتباطها بالنجاح أو الفشل فى العلاقات الإجتماعية ، ما يسمى بالتوكيدية ASSERTIVENESS أو تأكيد الذات ، أو ما أطلقنا عليه في موقع آخر حرية التعبير عن المشاعر ( إبراهيم 1995 ) .
يشير مفهوم تأكيد الذات إلى خاصية تبين أنها تميز الأشخاص الناجحين ، من وجهتي نظر الصحة النفسية والفاعلية فى العلاقات الإجتماعية . كان أول من أشار إلى هذا المفهوم وبلوره على نحو علمي ، وكشف عن متضمناته الصحية ، هو العالم الأمريكي " سالتر " ( Salter 1994 ) الذي أشار إلى أن هذا المفهوم يمثل خاصية أو سمة شخصية عامة ( مثلها مثل الإنطواء أو الإنبساط ) ، أي أنها تتوافر في البعض فيكون توكيدياً في مختلف المواقف ، وقد لا تتوافر في البعض الآخر ، فيصبح سلبياً وعاجزاً عن توكيد نفسه في المواقف الإجتماعية المختلفة . وجاء بعده " ولبي " ( WOLPE , 1958 ) و " لا زاروس" LAZARUS 1966 اللذان أعادا صياغة هذه الخاصية ، بحيث أصبحت تشير إلى قدرة يمكن تطويرها وتدريبها ، وتتمثل في التعبير عن النفس والدفاع عن الحقوق الشخصية عندما تخترق دون وجه حق . ومن ثم أشارا إلى أن بإمكان أي فرد أن يكون توكيدياً في بعض المواقف ، وسلبياً في مواقف أخرى . ومن ثم يكون هدف العلاج النفسي أن ندرب الفرد الذي يعاني من المرض النفسي أو العقلي ، على أن يتطور بإمكانياته في التعبير عن التوكيدية والثقة بالنفس فى المواقف التي كان يعجز فيها عن ذلك . ونظراً لما تمثله هذه الخاصية من أهمية في فهم الإضطراب النفسي ، فقد تحولت الأذهان في الفترات الأخيرة إلى إبتكار كثير من البرامج لتدريب هذه القدرة . وبإبتكار هذه البرامج أصبح بالإمكان التخفيف من كثير الأعراض المرضية ، التي يلعب فيها القصور في المهارات الإجتماعية أحد العوامل الرئيسة ، بما في ذلك القلق والإكتئاب . ويمثل برنامج تدريب المهارات الإجتماعية وتدريب القدرة التوكيدية والمستخدم فى العيادة السلوكية بكلية الطب ، جامعة الملك فيصل تحت إشراف المؤلف ، أحد هذه البرامج التي أثبتت الخبرة فاعليتها في البيئة العربية ، وقبل الدخول في تفاصيل هذا البرنامج ، نشير فيما يلي إلى بعض الحقائق الخاصة بمفهوم التوكيدية ، وكيفية قياسها .
التوكيدية في نقاط :
أصبح مفهوم التوكيدية من المفاهيم المستقرة ، التي أثبتت فائدتها فى العلاج النفسي والسلوكي ، كما تنوع إستخدامها بحيث أصبحت تشير إلي أكثر من معنى ، أمكننا حصر بعضها على النحو التالي :
1- الدفاع عن الحقوق الشخصية الفردية المشروعة سواء في الأسرة أو العمل ، أو عند الإحتكاك بالآخرين من الغرباء أو الأقارب .
2- التصرف وفق مقتضيات الموقف ، ومتطلبات التفاعل بحيث يخرج الفرد في هذه المواقف منتصراً ، وناجحاً ، ولكن دون إخلال بحقوق الآخرين .
3- التعبير عن الإنفعالات والمشاعر بحرية ، أي الحرية الإنفعالية .
4- التصرف من منطلقات نقاط القوة في الشخصية ، وليس نقاط الضعف ، بحيث لا يكون الفرد ضحية لأخطاء الآخرين أو الظروف .
5- التوكيدية تتضمن قدراً من الشجاعة وعدم الخوف من أن يعبر الفرد عن شعوره الحقيقي ، بما فى ذلك القدرة على رفض الطلبات غير المعقولة ، أو الضارة بسمعة الإنسان وصحته .
6- التحرر من مشاعر الذنب غير المعقولة أو تأنيب النفس عند رفضنا لهذه المواقف أو إستهجاننا للتصرفات المهينة .
7- القدرة على إتخاذ قرارات مهمة ، وحاسمة وبسرعة مناسبة ، وبكفاءة عالية .
8- القدرة على تكوين علاقات دافئة ، والتعبير عن المشاعر الإيجابية ( بما فيها المحبة ، والود ، والمدح ، والإعجاب ) خلال تعاملنا مع الآخرين ، وفي الأوقات المناسبة .
9- القدرة على الإيجابية والتعاون وتقديم العون .
10- القدرة على مقاومة الضغوط الإجتماعية ، وما تفرضه علينا أحياناً من تصرفات لا تتلائم مع قيمنا .
11- المهارة فى معالجة الصراعات الإجتماعية ، وما يتطلبه ذلك من تقديم شكوى ، أو الإستماع إلى شكوى ، والتفاوض ، والإقناع ، والإستجابة للإقناع ، والوصول إلى حل وسط … إلخ .
بإختصار فإن التوكيدية تتضمن كثيراً من التلقائية ، والحرية في التعبير عن المشاعر الإيجابية والسلبية معاً ، وهي بعبارة أخرى تساعدنا على تحقيق أكبر قدر ممكن من الفاعلية والنجاح عندما ندخل في علاقات إجتماعية مع الآخرين ، أو على أحسن تقدير ، تساعدنا على ألا نكون ضحايا لمواقف خاطئة ، من صنع الآخرين ، ودوافعهم فى مثل هذه المواقف .
سؤالنا الآن :
ما الذي يجعل من خاصية تأكيد الذات جانباً من جوانب الصحة النفسية ؟ ولماذا تمثل التوكيدية أحد الجوانب التى ينبغي على المكتئبين تدعيمها ؟
من اليسير إستنتاج إجابة هذا السؤال بإعادة النظر إلى ما ورد في السطور السابقة . فالتوكيدية تعني من ضمن ما تعنيه أن تكون لدينا القدرة على أن نفتح للآخرين أنفسنا ومشاعرنا ، وهي بهذا المعنى تعني عدم الخوف من أن تطلع الآخرين على مشاعرك ، بدلاً من أن تخفيها بداخلك ، ولهذا يسهل على التوكيدي أن ينمي علاقة سهلة ودائمة ودافئة بالآخرين ، بسبب ما تخلقه من طمأنينة متبادلة ، وتواصل ، وعدم خوف من كشف الذات ، ويمثل هذا النوع من العلاقات الإيجابية جانباً من الجوانب المهمة فى التغلب على الإكتئاب ، فنحن نشعر بالإكتئاب عادة عندما نفشل فى أن نجد علاقة أو أكثر فيها هذا الدفء .
وفى بيئاتنا العربية ، يوجد أكثر من سبب يجعلنا نشجع على تنمية التوكيدية بصفتها طريقاً للصحة النفسية . فتنميتها تساعد على تجنب كثير من جوانب الإحباط ، والجوانب المنفردة التي ترتبط بطبيعة العلاقات الإجتماعية فى بلادنا . وهنا قد أجد ضرورة إلى أن أشير إلى وجود نمط من الناس يخلقون نوعاً من العلاقات التي يسميها علماء النفس : علاقات مسمومة TOXICATING RELATIONSHIPS ... هذا هو النوع المجادل ، الذي يتبرع للمنافسة في كل كبيرة أوصغيرة ، ويحاول جهده أن يسفه من رأيك ، ويقلل من مجهوداتك ، وبعبارة أخرى يبني رأيه على النقد والمنافسة ، وهدم الآخرين أو الإقلال من شأنهم . هذا النوع من الأشخاص الذي يخلق جواً من العلاقات المسمومة قد يكون سائق تاكسي ، أو زميلاً فى العمل ، ربما حتي رئيسك ، أو حتى أقرب المقربين . وتبين دراسة الإكتئاب ، أنه قد يكون في أحياناً كثيرة نتيجة مباشرة لهذا النوع من العلاقات ، ومن هنا تنبع أهمية تأكيد الذات . فمن الصعب أن تكون موضوعاً للإمتهان من سائق تاكسي ، أو من رئيسك في العمل ، أو من زملاء المهنة ، أو غير هؤلاء من أشخاص أوقعتك الظروف معهم فى علاقات مسمومة من هذا النوع ، ما دمت مدرباً على التعبير عن مشاعرك الإيجابية والسلبية وأن تكون قادراً على إعلانها بصوت مسموع .
مثال هذا : حالة سيدة في الثلاثينيات من العمر متزوجة ، ولها أربعة أطفال : ثلاث فتيان وإبن رزقت به بعد طول إنتظار ، ومنذ شهور قليلة قبل حضورها للعيادة السلوكية . عندما قدمت إلينا ، وكان زوجها معها طلبت من زوجها وبثورة واضحة أن تراني بمفردها ، وما أن جلست تحكي مشكلتها حتى أجهشت ببكاء شديد ، ولما تمالكت نفسها ذكرت أنها تعيش في أسرة الزوج ، أي مع إخوته وأمه فى بيت واحد بحكم تقاليد المجتمع ، وذكرت أنه لا يمر يوم دون الدخول في صراعات ومنافسات مع أمه وأخواته ، وكل منهن تحاول أن تستميله إلى جانبها ، وأنهن ينصحنه أمامها بأن يتزوج من إمراة أخرى تنجب له أطفالاً ذكوراً ( في الفترة التى لم تكن فيها قد أنجبت إبنها الأخير ) . وذكرت " أن الأمور تسير على هذا المنوال " في هذه العلاقات منذ أن تزوجت ، وعندما سألتها كيف كانت تستجيب لذلك ، أجابت بالغضب والثورة أحياناً ، وأحياناً بالبكاء بمفردها ، والشكوى من الألم والوحدة لكل من يسمع لها . كان من الواضح أنها طورت علاقة لم تكن قائمة على على تأكيد الذات ، فقد تراوحت إستجاباتها بين الإنفعال بالغضب والهياج أو الإكتاب والإنزواء ، وكل ماكانت تفعله في هذه المواقف هو الشكوى " من حال الدنيا ، والتعاسة التي تعيشها " لكل من ينصت لها ، أي أنها كانت تعزز بشكواها مزيداً من سوء الحال مزيداً من الإضطراب . وكان ذلك يساعد على إستمرار الحلقة المسمومة من هذه العلاقات ، التي تتدهور حتى في علاقتها مع الزوج الذي كانت أيضاً تثور عليه وتتهمه بالجبن والتواطؤ ، ولما كان من الصعب عليها وعلى زوجها أن يعيشا مستقلين بعيداً عن أسرته ، فقد رسمت لهذه السيدة خطة علاجية لمساعدتها على التعبير عن إحتياجاتها في ظل الظروف التي تعيش فيها ، ووضعنا الإختيارات الممكنة ، ثم أمكن تدريبها بعد ذلك على التعبير عن الإحتياجات والحلول التي بلورتها بطريقة تأكيدية ، وقد أخذ ذلك منها تقريباً سبع جلسات إستطاعت بعدها أن تكون علاقة هادئة ومستقلة ، بدلاً من العلاقة المسمومة ، سارت خطتها العلاجية وفق خطوات منها :
1- التدريب على الإسترخاء كطريقة من طرق مقاومة القلق والضغوط .
2- تجنب الإنفعال عندما تواجه بالرفض أو النقد .
3- لا ترفضي ولا تؤيدي رأيهم فيك ، لأن الرفض يدفعهم إلى تأكيد وجهات نظرهم ، وإنتقاء أنواع السلوك بشكل مبتسر لكي يبينوا أنهم على حق .
4- بدلاً من المواجهة بالرفض أو الانفعال ، حاولي أن تنظري إلى الأمور من وجهة نظرهم ، على أن تعيدي صياغتها لهم بشكل يضمن حصيلة من الكسب المتبادل لك شخصياً ولهم : أي يضمن ألا يظل المناخ من حولك عدائياً ، وفي نفس الوقت ألا يشعروا بأنهم هزموا في صراعهم معك . فمن المؤكد ( إلا إذا كان جميع أفراد هذه الأسرة يعانون من مرض عقلي ) ستختلف الأمور ، وسيختلف نمط العلاقات لو " أظهرت أنك تتفهمين سبب إنشغالهم بموضوع الإنجاب ( أو أي موضوع آخر يثير الإضطراب في العلاقة بأسرة الزوجين ) ، وأنك ربما كنت ستشعرين نفس الشعور لو كان لك إبن أو أخ في نفس الظروف ، ولكن موضوع الإنجاب ليس بيدك الآن وأن هناك محاولات منك للبحث عن علاج ، وحتى لو فشل هذا العلاج فإن العلاقة بزوجك ليست مجرد إنجاب ولكن هناك دوراً أو أدواراً أخرى يمكن أن تلعبيها بإيجابية فى حياته وحياتهم ، ولهذا الغرض فأنت تحتاجين إلى مساعدتهم لك ، ودعمهم لك لتقومي بدورك بينهم على أحسن وجه " .
كان هدفنا أن أن نبين لهذه السيدة أن العلاقات الدائمة ، تحتاج إلى مهارة أكثر من مجرد الإنفعالات وتبادل الإتهامات ، وأن الحلول الإيجابية هي تلك التي تضمن محاولة لكسر الحلقة المفرغة الخبيثة ، التي يمكن أن تسود مثل هذه العلاقات إذا ما سمحنا للإنفعالات والغضب ، أن يكونا هما الأسلوبين الوحيدين للعلاج . وفى نفس الوقت طلبنا منها أن تضع فى خلال 15 دقيقة قائمة بما تحتاج إليه بالفعل في الظروف الحالية ، وأن تضع خمسة حلول لمشكلتها الرئيسية على فرض أنها سمعتها من صديقة أخرى لها ، وأن تبين ما هي الصعوبات التي قد تعيق تنفيذ هذه الحلول . وأن تحدد من بإمكانه في داخل الأسرة أن يساعدها دون خلق مشاكل إضافية . لقد إستطاعت هذه السيدة فيما لا يزيد عن شهرين من الجلسات الأسبوعية أن تعيد إدراكها وفهمها لأفراد الأسرة ، ومشاعرهم ، كما إستطاعت أن توطد علاقة إيجابية بزوجها ووالدته ، وفوجئت بالدعم والدفء الذي لقيته من أفراد الأسرة فى هذا الإتجاه ، ولما كانت تشعر بضرورة أن يكون لها بيت مستقل فقد أثارت هذه الحاجة لدى زوجها فتبين لها أنه كان يفكر في ذلك بالفعل ، وأنه يعمل على ذلك ، وأن أهله لا يمانعون من هذا ، بل يشعرون بالطمأنينة إذا ما تم ذلك الآن ، وفي ظل العلاقة الإيجابية الدافئة التى خلقتها داخل الأسرة ، ولم تعد الأم تخشى من أن يكون إستقلال إبنها نوعاً من الفقدان له .
ومن ناحية أخرى ، عادة ما يحصل المدربون في هذه الخاصية على مكاسب وفوائد إيجابية أكثر ممن هم أقل توكيدية . أي أن التعبير الإيجابي عن النفس يعود علينا بإيجابية مماثلة ، مما يساعد على خلق حلقة حميدة من العلاقات الإجتماعية ( في الظروف العادية ومالم يكن أحد الطرفين مصاباً بمرض عقلي ، فإن تفهم الآخرين ، والتصرف بإيجابية معهم ، سيدفع إلى نفس الإستجابة ، مما سيزيد من فرص الإحتكاك والتفاعل الإيجابي بين الطرفين ) .
ولأن التوكيديين يتكلمون أكثر ، ويعبرون عن مشاعرهم فى داخل الجماعة بحرية أكبر ، فهم يعطون الآخرين فرصة أكثر للتعبير المماثل عن مشاعرهم . ومن ثم ، فإن التعبير عن المشاعر بثقة يخلق جواً إيجابياً سهلاً ، ويساعد على تنمية جو إجتماعي دافيء وبناء . كل ذلك يجعل من هذه الخاصية أحد المتطلبات الرئيسية للصحة بشكل عام ولمقاومة الإكتئاب بشكل خاص .
فإلى أي مدى أنت قادر على تأكيد الذات ؟ وفي أي المواقف تجد صعوبة في تأكيد ثقتك بالنفس ؟ وفى أي المواقف تجد صعوبة فى التعبير عن نفسك ؟ وكيف يمكنك تدريب هذه المهارة في شخصيتك ؟ هذه هي الأسئلة التي سنجيب عنها في الجزء التالي ..